الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثم ذكرهم نعم الله تعالى لأن ذكر النعم مما يحمل على الطاعة ويبعد عن المعصية فقال: {واذكرا إذ كنتم} أي وقت كونكم {قليلًا فكثركم} قال الزجاج يحتمل كثرة العدد بعد القلة وكثرة الغنى بعد الفقر وكثرة القدرة والشدة بعد الضعف والذلة. قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها بالبركة والنماء وصاروا كثيرًا في العدة والعدة والشدّة. ثم حذرهم سوء عاقبة من أفسد قبلهم من الأمم وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فقال: {وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين} رغبهم أولًا ثم رهبهم ثانيًا وأكد الترهيب بقوله: {وإن كان طائفة} الآية. وفيه وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين وحث لهم على الصبر على ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم بمقتضى العدل والحكمة خير الحاكمين. ثم حكى جواب قومه المحجوجين المستكبرين وذلك قولهم: {لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا} أي أحد الأمرين كائن لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى الكفر. وهاهنا سؤال وهو أن الكفر على الأنبياء محال فكيف يتصور عوده إليه؟ وهب أن قول الكفار ليس حجة أليس قول شعيب حجة حيث قال: {إن عدنا في ملتكم}؟ وأجيب بأن الكلام بني على التغليب، وأن شعيبًا أراد عود قومه إلا أنه نظم نفسه في جملتهم لما ذكرنا، أو لعل رؤساءهم قالوا ذلك تلبيسًا على القوم وشعيب أجرى كلامه على وفق ذلك، أو أنه كان في أوّل أمره يخفي مذهبه فتوهموا أنه على دينهم، أو أريد بالملة الشريعة التي صارت منسوخة بشرعه، أو يطلق العود على الابتداء كقوله:
قال شعيب في جوابهم {أوَلو كنا كارهين} الهمزة للاستفهام والواو للحال والتقدير: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهيتنا؟. ثم صرح بأنه لا يفعل ذلك فقال: {قد افترينا على الله كذبًا} إن فعلنا ذلك وذلك أن أصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب والعود في ملتكم ينافي ذلك. ومعنى قوله: {بعد إذ نجانا الله منها} بعد أن علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على بطلانه، أو المراد نجى قومه فغلب، أو المراد على حسب زعمكم ومعتقدكم كما مر. قال في الكشاف: وقوله: {قد افترينا} إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون كلامًا مستأنفًا فيه معنى التعجب كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأن الارتداد أعظم من الكفر حيث إن المرتد يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل وكفره أزيد. والثاني أن يكون قسمًا على تقدير حذف اللام معناه والله لقد افترينا على الله كذبًا {وما يكون لنا} أي ما ينبغي لنا وما يصح {أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا} قال أهل السنة: في الآية دلالة على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى وكذا المعيد إليه قال الواحدي: ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام: {واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام} [إبراهيم: 35] وكثيرًا ما كان يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك» وقال يوسف {توفني مسلمًا} [يوسف: 101] أجابت المعتزلة بوجوه: الأوّل: أن قوله: {إلا أن يشاء} قضية شرطية أي إن شاء يعد وليس فيه بيان أنه شاء أم أبى. الثاني: أن هذا على طريق التبعيد والإحالة. كما يقال لا يفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشار الغراب. الثالث: لعل المراد ما لو أكرهوا على العود فإن إظهار الكفر عند الإكراه جائز وإن كان الصبر أفضل وما كان جائزًا صح أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله وإن كان غسل الرجلين أفضل. الرابع: يحتمل أن يعود الضمير في {فيها} إلى قرية. كأنه قال: إن أخرجتمونا من القرية حرم علينا العود فيها إلا بإذن الله تعال. الخامس: المشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل فإنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولا يجوز فعله إنما الذي يوجب الجزواز هو الأمر فيحتمل أن يراد بالمشيئة هاهنا الأمر فيكون التقدير: إلا أن يأمر الله أن نعود إلى شريعتكم المنسوخة، فإن الشرع المنسوخ لا يبعد أن يأمر الله تعالى بالعمل به مرة أخرى. السادس: قال الجبائيّ: المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصوم والصلاة، فمن الجائز أن يكون بعض أحكام الشريعة المنسوخة باقيًا فيكون المعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعض تلك الملة فيدلنا عليها. ثم إن المعتزلة تمسكوا بالآية على صحة قولهم من وجهين: أحدهما: أن قوله: {وما يكون لنا} معناه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود وذلك يقتضي أن كل ما شاء تعالى وجوده كان فعلًا جائزًا مأذونًا فيه، وما كان حرامًا ممنوعًا منه لم يكن مراد الله تعالى. وثانيهما: أن قوله: {لنخرجنك} أو {لتعودن} لا وجه للفصل بينهما فإن كان العود بخلق الله كان الإخراج أيضًا بخلقه. قلت: للسني أن يلتزم ذلك. أما قوله: {وسع ربنا كل شيء} فوجه تعلقه بما تقدمه على قول الجبائيّ هو أن التكليف بحسب المصالح فيكون معنى قول شعيب إلا أن يشاء الله إلا أن تختلف المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعلم بالمصالح لا يكون إلا بأن وسع كل شيء علمًا. وقالت الأشاعرة: وجه التعلق هو أن القوم لمّا قالوا لنخرجنك أو لتعودن قال شعيب {وسع ربنا كل شيء علمًا} فربما كان في علمه قسم ثالث: وهو أن يبقينا في القرية مؤمنين ويجعلكم مقهورين خاسرين ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك {على الله توكلنا} أي لا على غيره وانتصاب {علمًا} على التمييز.وفي قوله: {وسع} بلفظ الماضي دلالة على أنه تعالى كان في الأزل عالمًا بجميع المعلومات فلا يخرج عن شيء عن مقتضى علمه وهو معنى جفاف الأقلام وطي الصحف ولزوم الأحكام وسعادة السعيد وشقاوة الشقي ويعلم من عموم كل شيء أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف يكون. فهذه أقسام أربعة يقع كل منها على أربعة أوجه لأنه علم الماضي كيف كان، وعلم أنه لو لم يكن ماضيًا بل كان حالًا أو مستقبلًا أو معدومًا محضًا فإنه كيف يكون، وكذا الكلام في الأقسام الأخر فيكون المجموع ستة عشر. وإذا اعتبر كل منها بحب كل جنس أو نوع أو صنف أو شخص من الجواهر أو الأعراض صار مبلغًا تتحير فيه عقول العقلاء بل تقف دون أوّل قطرة من قطرات بحاره. ثم إن شعيبًا لما أعرض عن الأسباب وارتقى بطريق التوكل إلى مسببها ختم كلامه بالدعاء قائلًا {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق} قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: احكم واقض. وعن ابن عباس: ما أدري ما معناه حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك أي أحاكمك. وجوز الزجاج أن يكون معنى الآية أظهر أمرنا حتى يتضح وينكشف ما بيننا وبين قومنا. والمراد أن ينزل عليهم عذابًا يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين. ثم أثنى على الله بقوله: {وأنت خير الفاتحين} كما قال: {وهو خير الحاكمين} قالت الأشاعرة: الإيمان فتح باب الخيرات وهو أشرف صفات المحدثات، فلو كان موجد الإيمان هو العبد كان خير الفاتحين هو العبد. وللمعتزلة أن يقولوا: لولا ألطافه المرجحة الداعية لم يوجد الإيمان من العبد فصح أن الله هو خير الفاتحين. ثم بيّن أن رؤساء قوم شعيب لمن يقتصروا على الضلال بل بادروا إلى الإضلال قائلين لمن دونهم {لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون} أي في الدين أو في الدنيا لأنه يمنعكم من ازداياد الأموال بطريق البخص والتطفيف {فأخذتهم الرجفة} قد سبق تفسيرها {الذين كذبوا شعيبًا كأن لم يغنوا فيها} يقال غني القوم في دارهم إذا طال مقامهم فيها. والمغاني المنازل إذا كان فيها أهلها. وقال الزجاج: أي كأن لم يعيشوا فيها مستغنين من الغنى الذي هو ضد الفقر. وعلى التفسيرين شبه حال المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار كقوله: قال في الكشاف {الذين كذبوا} مبتدأ خبره {كأن لم يغنوا} وكذلك {كانوا هم الخاسرين} وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل: الذين كذبوا شعيبًا هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في ديارهم لأن الذين اتبعوا شعيبًا قد أنجاهم الله: {الذين كذبوا شعيبًا} هم المختصون بالخسران العظيم دون أتباعه فإنهم الرابحون، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم.قلت: والعرب قد تكرر للتفخيم والتعظيم فتقول: أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا. وأيضًا إن القوم لما قالوا: {لئن اتبعتم شعيبًا إنكم إذًا لخاسرون} بيّن الله تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه وهم الخاسرون. وفي الآية فوائد أخرى منها: أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا حصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار. ومنها أن ذلك الفاعل عليم بالجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي. ومنها أن يكون معجزة لشعيب حيث وقع ذلك العذاب على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلد واحد {فتولى عنهم} قد تقدم أن هذا التولي جائز أن يكون قبل نزول العذاب وجائز أن يكون بعده. قال الكلبي: خرج من بينهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بين أظهرهم. ولما اشتد حزنه على قومه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الإلفة لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منم الإجابه للإيمان عزّى نفسه وقال: {فكيف آسى على قوم كافرين} لأنهم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر. والأسى شدة الحزن. وقيل: المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم لأنكم لستم مستحقين لذلك؟. اهـ. .قال الشوكاني: قوله: {وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْبًا} معطوف على ما تقدّم، أي وأرسلنا.ومدين: اسم قبيلة، وقيل: اسم بلد والأوّل أولى.وسميت القبيلة باسم أبيهم، وهو مدين بن إبراهيم كما يقال بكر وتميم.قوله: {أخاهم شُعَيْبًا} شعيب عطف بيان، وهو شعيب بن ميكائيل بن يشجب بن مدين بن إبراهيم، قاله عطاء وابن إسحاق وغيرهما.وقال الشرقي بن القطامي: إنه شعيب بن عيفاء بن ثويب بن مدين بن إبراهيم.وزعم ابن سمعان أنه شعيب بن حرّة بن يشجب بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.وقال قتادة: هو شعيب بن صفوان بن عيفاء بن ثابت بن مدين بن إبراهيم.قوله: {قَالَ ياقوم} إلى قوله: {بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ} قد سبق شرحه في قصة نوح.قوله: {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} أمرهم بإيفاء الكيل والميزان، لأنهم كانوا أهل معاملة بالكيل والوزن، وكانوا لا يوفونهما، وذكر الكيل الذي هو المصدر، وعطف عليه الميزان الذي هو اسم للآلة.واختلف في توجيه ذلك، فقيل المراد بالكيل: المكيال، فتناسب عطف الميزان عليه.وقيل المراد بالميزان: الوزن فيناسب الكيل، والفاء في {فأوفوا} للعطف على اعبدوا.قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} البخس النقص، وهو يكون بالتعييب للسلعة أو التزهيد فيها، أو المخادعة لصاحبها والاحتيال عليه، وكل ذلك من أكل أموال الناس بالباطل، وظاهر قوله: {أَشْيَاءهُمْ} أنهم كانوا يبخسون الناس في كل الأشياء.وقيل: كانوا مكاسين، يمكسون كل ما دخل إلى أسواقهم، ومنه قول زهير:قوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ في الأرض بَعْدَ إصلاحها} قد تقدّم تفسيره قريبًا، ويدخل تحته قليل الفساد وكثيره، ودقيقه وجليله، والإشارة بقوله: {ذلكم} إلى العمل بما أمرهم به، وترك ما نهاهم عنه، والمراد بالخيرية هنا: الزيادة المطلقة، لأنه لا خير في عدم إيفاء الكيل والوزن، وفي بخس الناس، وفي الفساد في الأرض أصلًا.قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط تُوعِدُونَ} الصراط: الطريق، أي لا تقعدوا بكل طريق توعدون الناس بالعذاب.قيل: كانوا يقعدون في الطرقات المفضية إلى شعيب، فيتوعدون من أراد المجيء إليه، ويقولون إنه كذاب فلا تذهب إليه، كما كانت قريش تفعله مع النبي صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والسديّ، وغيرهم.وقيل المراد: القعود على طرق الدين ومنع من أراد سلوكها.
|